هكذا تحمّست فرنسا لإسقاط الأسد
قبل مئة عام.. دخلت جيوش فرنسا دمشق وأعلنت نفسها سلطة انتداب، قمعت الثورة عليها بأعتى الأسلحة.. وفرّقت بين الطوائف، جزّأت سوريا.. وسلخت عنها لبنان ثم لواء اسكندرون
وكادت تضع الشام تحت جناحها بـ«معاهدة تحالف» إلى الأبد، لكنها أخطأت.. فخسرت سوريا إلى الأبد!
وبعد 60 عاماً..هكذا تحمّست فرنسا لإسقاط الأسد
قبل أي شيء، لابد من سرد هذه الواقعة، لمعرفة كيف أن فرنسا في كل مرة تتحرك لتصحيح خطأ سابق.. تقع في خطأٍ آخر فادح!
خيبة الأتاسي!
أيلول 1936.. مظاهرات حاشدة تنطلق في كبرى المدن السورية، ترحيباً بـ«معاهدة صداقة وتحالف» بين حكومة بلوم الفرنسية، ووفد سوري برئاسة هاشم الأتاسي في باريس.
هي معاهدة استقلال، حيث تلتزم سوريا بحلف مع فرنسا لمدة 25 سنة، على أن تحتفظ فرنسا بقواعدها العسكرية في سوريا لخمس سنوات.
صدّق البرلمان السوري على المعاهدة، لكن البرلمان الفرنسي لم يصدّق عليها، وولّى الفرنسيون وجههم شطر تركيا.. وقّعوا معها معاهدة الصداقة وقدموا لها لواء اسكندرون على طبق من ذهب!
وبعد 10 أعوم انتهت مغامرة فرنسا في سوريا بضغط دولي، وخرجت منها خالية الوفاض!
تقول المؤرّخة الفرنسية «مانون نور طنّوس» في كتابها «شيراك والأسد والآخرون» إن: «سوريا ليست شريكاً سهلاً»
منذ خروج آخر جندي فرنسي من سوريا حتى اليوم، هناك مسار واحد رائج في تعامل باريس مع دمشق على مبدأ «كلما كانت محاولة التعاون أكبر، كلما ازدادت حدّة المواجهة»، ودائماً كان الهدف الفرنسي من التقارب مع سوريا البحث عن دور في الشرق الأوسط، و«تخفيف الأذى السوري» ضد مصالح فرنسا في المنطقة.. لكن التقارب دائماً ينتهي بالصدام!
فخّ جاك شيراك.. القرار «1559»
الرئيس الفرنسي جاك شيراك لأعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي آذار 2004: «يجب مساعدة لبنان على التخلص من الوصاية السورية»
وصل الرئيس بشار الأسد إلى سدة الرئاسة بداية الألفية الحالية.. حاول الرئيس الفرنسي حينها جاك شيراك استقطاب الأسد، ويروي في مذكراته أن الرئيس الراحل حافظ الأسد أوكله بمساعدة الرئيس الشاب، لكن شهر العسل بين دمشق وباريس لم يدم طويلاً..
أرادت دمشق التمديد للرئيس اللبناني إيميل لحود، وهو مارفضه شيراك.. وكان أيضاً يبحث عن طريقة لاستعادة علاقاته المتوترة مع واشنطن بعد معارضة فرنسا الغزو الأمريكي للعراق، وخروجها من «المونة بلا حمّص»..
اقترح شيراك على بوش إصدار القرار الأممي 1559 لإخراج الجيش السوري من لبنان وتطويق سوريا وحلفائها
يروي الكاتب الفرنسي فنسان نوزي أن بوش أبلغ شيراك في خريف 2003 قائلاً: «قل للأسد إني شريرٌ أُحادي التصرف»
شيراك طمأن بوش بأن تطبيق القرار 1559 مع عقوبات قاسية «سيكون قاتلاً» لحكومة دمشق.
في قلب هذه المعمعة، قُتل الحريري بتفجير سيارته وسط بيروت، وبعد مقتله بساعات أشارت باريس وواشنطن إلى سوريا باعتبارها «القاتلة».
تابعونا عبر فيسبوك
فشلت جهود فرنسا في عزل دمشق.. ذهب شيراك وجاء ساركوزي، وعادت سوريا إلى المشهد الدولي عام 2008، ومن سخرية القدر أن فرنسا ساركوزي هي من تكفّلت بهذه المهمة.
اعتبر سيّد الإليزيه الجديد أن «الأسد لاعبٌ أساسي في المنطقة وعاملٌ من عوامل الاستقرار فيها» ودعاه لحضور العرض العسكري في باريس احتفالاً بالعيد الوطني، وزار ساركوزي دمشق مرتين، قبل أن تندلع أحداث 2011، وتبدأ القطيعة من جديد!
حماسة زائدة!
اندلعت شرارة أحداث مأساوية في سوريا عام 2011، كانت باريس سبّاقة فيها للصدام مع دمشق.
الصدام بدأ بزيارة السفير الفرنسي لمدينة حماه ولقاءه بالمتظاهرين، ولم ينته عند إغلاق السفارة بأمر من ساركوزي!
اعترفت فرنسا بالائتلاف السوري المعارض ممثلاً وحيداً للشعب السوري، ووصفه فرانسوا هولاند، خليفة ساركوزي، بـ«الحكومة الديمقراطية» التي ستحكم سوريا لاحقاً.
ضغطت باريس على الاتحاد الأوروبي لرفع حظر مبيعات الأسلحة باتجاه سوريا، للسماح للمعارضة بالحصول على السلاح.. وهو ما حدث فعلاً
وتحمّست كثيراً مع أمريكا للتدخل العسكري في سوريا عام 2013، بتهمة استخدام الحكومة أسلحة كيميائية ضد المعارضة، لكن واشنطن خذلتها وتراجعت عن الضربة مقابل صفقة تفكيك «الترسانة الكيمياوية السورية».
الأسد سيكون هناك
استماتة فرنسا بزعامة هولاند لإسقاط حكومة دمشق بالعسكرة منيت بالفشل، فهي لم تكن تملك القدرة على التحرك عسكرياً بشكل منفرد، وفيما كانت واشنطن تهمّش دورها في سوريا، شكلت روسيا وتركيا ثنائية قطبية في الملف السوري، فظهر وكأن باريس خارج اللعبة من جديد..
وصلت السياسة الفرنسية في سوريا إلى طريق مسدود، ومع وصول إيمانويل ماكرون إلى الإليزيه، حاول تغيير دفّة الموقف من دمشق، وأعلن عام 2017 أنه «لا يرى بديلاً شرعياً للأسد في الوقت الراهن»
كان ماكرون يتحدث عن انتصار قادم على تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، لكنه قالها بصراحة: «الأسد سيكون هناك.. ولا نستطيع القول إننا لا نريد محادثته».
تحاول فرنسا إعادة تشغيل آلية الدبلوماسية مع سوريا، لكن دمشق تبدي استعداداً أقل، وتشترط فتح السفارة الفرنسية قبل أي شيء!
باريس تجد نفسها اليوم خارج اللعبة السياسية في سوريا.. ومردّ ذلك لسبب وحيد هو: حساباتها الخاطئة في كل مرة!
شاهد التقرير فيديو هنا: هكذا تحمّست فرنسا لإسقاط الأسد