أبناء “غَزيّة”.. صوت العشيرة أقوى!
انتماء عابر للقوانين والحدود، يعتبره البعض دولة داخل دولة، ويفوق دوره في بعض الحالات دور السلطات الرسمية، تراه في الأردن بـ«الحق العشائري»، وفي العراق بـ«الدكّة العشائرية»، وفي السعودية بـ«السْلُوم»، وفي سوريا بـ«فزعة العشائر»، هنا في المشرق العربي.. لايزال الانتماء للعشيرة أقوى من المواطنة، فمن لا عشيرة له كأنه «مقطوع من شجرة»!.
ويبقى الأخطر في هذا كله الانتماء العشائري العابر الحدود!.
عهد البداوة لم ينته بعد!.. لا يزال قسم كبير من سكان الدول العربية يرزح تحت عُرْف العشيرة، ولا يزال النظام العربي ينفرد عن غيره من النظم الإقليمية بسهولة تغلغل أي طرف في شؤون الطرف الآخر، بحكم التشابك القبلي، وضعف الشعور بالانتماء الوطني، وعدم قدسية الحدود التي يرجع تاريخها إلى عهد قريب!.
في الأردن ما زال المجتمع يعمل بـ«القضاء العشائري»، رغم مرور عقود على تأسيس دولة القانون والمؤسسات.
في السعودية «دستور» لكل قبيلة، يطلق عليه السكان المحليون اسم «السلوم»، يبلغ تأثيره أحياناً والالتزام به أكثر من الالتزام بأحكام الدين ذاتها!.
وفي العراق ترى ظاهرة «الدكّة العشائرية».. وهي «غزو ليلي» تقوم به عشيرة ضد عشيرة أخرى اعتدت على أحد أفرادها، فيمطر المهاجمون منازل العشيرة الأخرى بوابل من الرصاص، ومن ثم يعرّفون عن أنفسهم بصوت مرتفع وينصرفون.
تابعنا عبر فيسبوك
لكن الأسوأ لم يأتِ بعد!.
سنروي لك قصة جرت في أيار من عام 2019، عندما عملت السعودية بالتعاون مع أمريكا على استغلال الرابط العشائري مع قبائل شرقي الفرات، لتحقيق مصالحها السياسية في سوريا.
في ذلك الشهر ظهر وزير الدولة السعودي «ثامر السبهان» داخل القاعدة الأمريكية بـ«حقل العمر» في دير الزور، برفقة مسؤولين أمريكيين، والتقى عدداً من وجهاء العشائر العربية، لبحث مستقبل المنطقة بعد دحر «داعش»، ووعدهم بدعم مناطقهم، عبر إيجاد فرص عمل وإعادة تأهيل القرى المدمرة وتعويض المتضررين.
اتخذت زيارة السبهان طابعاً عشائرياً، فهو ينتمي لقبيلة «شمر» العربية وتربطه علاقات وثيقة بالعشائر في دير الزور والحسكة!.. وتزامنت زيارته مع تشكيل مجالس عسكرية من عشائر المنطقة، فكان هنالك هدف واضح بإنشاء «قوة عشائرية»، بعد أن خسرت السعودية فصائل معارضة كانت تدعمها في الجنوب السوري!.
قبل ذلك بنحو سنتين، كان المعارض السوري أحمد الجربا قد أسس ما عرف بـ«المجلس العربي للجزيرة» ذو الصبغة العشائرية، بتوجيه ودعم سعودي، فيما عملت تركيا أيضاً على استغلال الحالة العشائرية بمناطق سيطرتها في الشمال، وشكّلت «المجلس الأعلى للقبائل والعشائر السورية».
اليوم، يعود حديث العشائر مجدداً إلى الواجهة.. في الأشهر الماضية كثرت الاجتماعات العشائرية والتكتلات القبلية، وعلت الأصوات المطالبة بإحياء الانتماء العشائري، كونه يسهم في استقطاب فئات كبيرة من المجتمع السوري لصالح الأطراف المتحاربة.. وكانت أولى إرهاصاته الخلاف الذي وقع بين «مجلس دير الزور العسكري» وقوات «قسد» التي يعمل تحت لوائها، ليتحول الخلاف إلى حرب مستعرة بين عشائر الجزيرة و«قسد» الموالية لأمريكا، بينما استغلت تركيا ما يحدث لتدفع الفصائل الموالية لها باتجاه قضم مناطق جديدة في الشمال تحت غطاء «فزعة العشائر».
هكذا تعقّد مشهد الحرب في سوريا من جديد، ودخل عامل «العشيرة» بقوة ساحة الحرب، مع استغلال بعض أطراف الصراع في الداخل والخارج لـ«الحمية العشائرية» على قاعدة بيت الشعر القائل:
ومَا أنَا إلا من غَزِيَة إنْ غوَتْ غوَيْتُ وإنْ تَرشُدْ غزيَة أَرْشُدِ.
في النهاية يقول أحدهم: أن تحضر أداة قديمة لمواجهة مشكلة معاصرة، فتلك محاولة لإعادة إنتاج الفشل!.
شاهد أيضاً: 2023 العام الأكثر سخونة.. لكن هل هو الأخير ؟